دراما عبد الرحيم كمال منذ بدايتها وهي لافتة للنظر وبها جوانب متكررة، منذ أن اقتحم عالم الدراما تجد أن النزعة الصوفية متوغلة في أعماق الأحداث، النزعة التي تميل إلى الزهد والحب العذري الذي يميل لحب الروح فحسب، تجدها مثلا في “الخواجه عبد القادر”، طقوس الحضرة وشِعر الحلاج والمسبحة والأوراد التي يتغنى بها الشيخ عبدالقادر السوداني وغيرها من أدوات الصوفيين كلها ترمز إلى مدى إيمان المؤلف بهذا التوجه حتى يبرزه في عمل كامل، الكرامات التي تقع على رجل جديد عهد بالإسلام أو إن شئت قل (خواجه) وهو أمر غير مألوف، والمتعارف عليه أن صاحب الكرامة شخص معمم ملتحي ولم نعتاد أن نراها على يد شخص يتلعثم في اللغة العربية يرتدي برنيطة وبدلة، أراد “كمال” أن يوصل للمشاهد بذلك أحد أهم مبادئ الصوفية وهو التعلق بالمضمون والمعنى أكثر من الشكل، والحب عند “كمال” لا يتعلق بالمحسوسات والعادات بل هو حب روحي وذاتي، تجد “الخواجه” يحب “زينب ” التي تصغره بفارق عمري كبير وهي صعيدية المنشأ وهو أوروبي نازح إلى أقاليم مصر، كما تجد في أحداث المسلسل غانية تحب أحد الوجهاء من عائلة ذات صيت وهي ذات السمعة السيئة، وفي “أهو دا اللي صار” يحب البطل صاحب القصر ابنة الخادم، وفي فيلم “الكنز” تجده يحكي عن قصص حب مستحيلة في أزمنة متعددة بين الملكة وأحد الحاشية أو بين البطل الشعبي وابنة عدوه، وبين صاحب النفوذ المتزمت والمغنية، فالحب ليس له سبب كما قال الشيخ عبدالقادر السوداني، والزمان أبدي لمن يحب كما قال يونس ولد فضة.
وتجد مشاهد الحضرة تتكرر في “ونوس” في سياق مواجهة ألاعيب الشيطان، وفي “الرحايا” أحد أبناء “محمد أبو دياب” متبع لهذه الطقوس زاهد لا يعبأ بالتسلط على ممتلكات أبيه كإخوته، يحمل سجادة الصلاة وينعزل عن الجميع، وكذلك الشيخ سلام الدرويش في ” شيخ العرب همام ” الذي يعتبره أخوه صاحب بركة معبر أيضا عن معاني الزهد يتلو الأوراد ويمارس التهليلات والطقوس يناجي مولاه حتى يتوفى ليلة عرسه وكأنه لا يعبأ بكل زخارف الحياة، كلها معاني تدل على التخلي عن الدنيا وبهرجها والحب الذاتي والإلهي، كما ينشد “عرفات” في “جزيرة غمام” مبادئ الصوفية بأداء ملهم فحب عرفات الزاهد للغجرية حب روحي مثل حبه لمعلمه الشيخ مدين وحبه لأطفال الجزيرة وحبه للطبيعة وللكون حتى يصل للحب الأول وهو حب الإله الذي يظهر في جمله “العين تشوف على قدها لكن القلب يشوف على قد البحر، النفوس تفضح أصحابها لكن القلوب تسترها” وتخليه عن متاع الدنيا عن السكن والمنصب والمال، وهذا انتصار من “كمال” للصوفية في مواجهة التشدد الديني والتسيّب على حسب الهوى.
الاقتباس:
والاقتباس من التراث القصصي يظهر عند “كمال” بقوة، في الرحايا اقتباس من قصة سيدنا يعقوب وأبنائه فمحمد أبو دياب يحب مرعي عن دون إخوته مما يجعل الأبناء يكيدون لأخيهم ويحاولون إلقائه في المصرف كما فعل إخوة يوسف عليه السلام، وفي “ونوس” إبليس هو ونوس الذي بسبب وسوسته يبعد “ياقوت” عن زوجته وأبنائه عن جنة الأهل إلى غياهب الرذيلة لكن عندما يقرر “ياقوت” التوبة يتوجه الشيطان إلى أبناء ياقوت ويحاول أن يستدرجهم كل على حسب ميوله، فكأن إبليس “ونوس” وياقوت وزوجته آدم وحواء وكأن بيت العائلة هو الجنة والدنيا هي صراع الإنسان مع الفتن الخارجية، وكأن “عزيز” الابن الأكبر هو عزيز مصر وكأن نبيل هو يوسف “عليه السلام” التي تراوده خطيبة “عزيز”عن نفسها، ويونس ولد فضة وإبراهيم ولد مسالم أسماء لأنبياء تعرضوا لاختبارات عظيمة كما حدث لبطل القصة.
دراما الصعيد بلون آخر:
كنا قد عهدنا دراما الصعيد في أوقات كثيرة تتحدث عن الثأر والانتقام وتسلط العمدة ومعاونيه على الفقراء حتى أتى عبدالرحيم كمال وغيّر هذه القاعدة، فالصعيد يحمل مواضيع كثيرة تحتاج إلى الالتفات إليها فوجدناه يشير إلى علاقة الأب بأبنائه في “الرحايا” وعن قصة ملك صعيدي داهية وماكر في “شيخ العرب همام” وعن خواجه مسلم يعيش في الصعيد في” الخواجه عبدالقادر” وعن علاقة الأب ببناته في “دهشة”، حتى لما ناقش الثأر في “يونس ولد فضة” تركنا مع معاناة إبراهيم في بلد غير بلده واسم غير اسمه وعلاقته بالعائلة التي أصبح منها وبحثه عن إخواته البنات ولم يلجأ إلى سرد صراع العائلات من أجل الثأر، عندما تدخل صعيد عبد الرحيم كمال يمتزج عندك الفانتازيا مع الحقيقة، تتوحد مع الشخصيات وتشعر بأنك داخل هذا العالم تتعرف على أسمائهم وتلصق بذهنك لأنها موافقة لأسماء بني الصعيد، ف”كمال” أتي من رحم هذه البيئة فلابد أن يأتي بمفرداتها ولوازمها وأسمائها، أسماء لا تسمع بها في غير الصعيد(فضة، حسيبة، مناع، أبو ذكري، مندهة، بدرة، شهاوية، رابحة، الباسل، شبل، صنصف، …)، ومفردات البيئة راسخة جدا في أعماله ودالة على المعنى بالسياق بدون تعب أو تكلف، والشخصيات تعبرعن فئات المجتمع الصعيدي كافة ولوازمها مناسبة وموافقة حتى مع اختلاف الأزمنة، حتى الشر في أعماله مختلف عن غيره فأبو ذكري في “الرحايا” الذي يسعى في المكيدة والإيقاع بابن عمه تلمس معه جانب من الفكاهة حتى أنك قد تحب الشخصية، ستدخل عالم دهشة الذي هو اقتباس من رواية أجنبية لشكسبير دون أن تتذكر ذلك، الباسل حمد الباشا مختلف عن الملك لير رغم تشابه الأحداث حتى وإن كنت قرأت الرواية فستعيش الأحداث لأول مرة، استطاع عبدالرحيم كمال أن يحرك الأحداث من أوروبا ويوقعها في أعماق الجنوب مع اختلاف العادات واللغات ومفردات البيئة ومناخها، قد تنسى اسم الممثل الذي قدم دور فضالي (اسمه عصام توفيق) الذي يبحث عن الثأر في يونس ولد فضة لكنك تذكر دوره كمدرس لغة عربية صعيدي في الخواجه عبدالقادر مع اختلاف الدورين، تشفق على” مسالم” وقلة بخته وتعاني معه في البحث عن أبنائه في يونس ولد فضة، تتذكر مشهد الباسل في “دهشة” وهو يمشي حافيا فوق الرمال كالمجنون بعد غدر بناته له وطردهم له، أعمال عبدالرحيم كمال الصعيدية تعبرعن كاتب تشرب هذه البيئة وأخرج منها لوحة فنية وعوالم غير معتادة.
الشيطان والبشر:
معركة دائرة بين بني الإنسان وإغواء الشيطان يحاول فيها الشيطان أن يستعمل كل الأدوات المبررة للشخصيات للوقوع في براثن الرذيلة هذا الصراع تجسد عند “كمال” في أكثر من عمل أبرزهم “ونوس” الذي اعتنى بهذه الفكرة فالشيطان استعمل نقاط ضعف الشخصيات ليحيدهم عن الطريق القويم وتشكل في أكثر من شخصية ليسهل عليه ذلك، تجده في الكنيسة والحضرة والتليفزيون والكباريه والأماكن العامة يقعد للإنسان في أي مكان حتى يصل لمسعاه، يستغل حب الناس للشهرة والمال والجنس والسلطة حتى أنه يتسلل في أعمال الخير ليزيحها أو يقرنها بالرياء، في نهاية المطاف يؤكد “كمال” أن كيد الشيطان ضعيف وأن باب التوبة مفتوح حينما يموت البطل “ياقوت” وهو معترف بأخطائه ونادم عليها، مما يجعل “ونوس” الشيطان يشعر بخيبة الأمل وهو يقدم شخصية الشيطان في الملاهي بما فيها من رمزية اللهو والعبث التي يختلقه الشيطان ويبعد به الإنسان عن طريق الله، حينما يزعم في حديثه بتدليل بني آدم عليه وأنهم قوم مذنبون خطائين لا يستحقون المغفرة وأنه هو الزاهد الأول المخلوق من نار زعما بأفضليته عليهم والحقيقة أن كبره وعناده هما السبب في غضب المولى عليه، نفس الصراع تكرر في “جزيرة غمام” بشخصية “خلدون”، ورمزية الصراع نجدها مع الخواجه في صراع البطل مع نفسه وملاذاته من الخمر والرغبة في الانتحار وكيف يتجاوز هذا الصراع مع العزيمة والحب، لابد أن هناك صراع في “دهشة” وهو صراع البشر مع أطماعهم ورغباتهم الخبيثة تجد أزواج البنات يطمعون في ورثهن وفي الانتقام من والدهن الباسل، وصراع الباسل مع إخوته غير الأشقاء، وصراع علام حمد الباشا مع ابنه غير الشرعي الذي يحاول إيذاء الابن الشرعي لعلام إشارة إلى أن الأعمال السيئة تلازم المرء وقد تلحق الضرر بالأعمال الخيرة في حياته، صراعات تتعلق بالنفس البشرية وأهدافها بعيدا عن إغواء الشيطان إشارة إلى خطر النفس وهواها.
الراوي والقاص:
قد تبدو فكرة سرد الأحداث من خلال راوي أو قاص فكرة قديمة ومستهلكة فيها نوع من المباشرة والتوجيه والبعد عن جوهر الأحداث بالانشغال برأي الراوي وانفعالاته تذكرك بشكل راوي الربابة الحكواتي الذي يحكي قصص أبو زيد الهلالي وينطلق المستمعون إلى مخيلتهم عند سماع القصة أو شهرزاد التي تروي لشهريار قصص ألف ليلة وليلة كلها أساليب عفى عليها الزمن في الحكي الدرامي إلا أنها موجودة بقوة في حياتنا اليومية، لكن عبدالرحيم كمال صاغها بطريقة فيها نوع من الحداثة يأتي براوي له دخل كبير في الأحداث معايشا لها، ففي الخواجه عبدالقادر كان “كمال” يقص على أبنائه قصة الخواجه الذي عهده في صغره وتسير الأحداث في خط درامي آخر وهو التحولات التي حدثت في حياة “كمال” والبحث عن لغز اختفاء الخواجة وزوجته، ومحاولة الدفاع عن ضريح الخواجه ممن يحاولون هدمه والتحولات في حياة ابن “كمال”، فالرواي هنا ليس مقحما في الأحداث بل هو جزء أساسي منها، وفي “نجيب زاهي زركش” تجد “طريف” يروي الأحداث مضيفا لها معلومة جديدة أو معبرا عن رأيه في الأحداث مع نكهة الكوميديا الخفيفة لن يكن الأمر جاذبا إذا كان الراوي خارج الأحداث ورأيه لن يكون ذا أهمية، لكن “طريف” شخصية رئيسية في القصة تمتلك طابعا كوميديا جاذبا للجمهور وهو خادم البطل وكاتم أسراره وملبي أوامره مطلع على أغلب أحداث العمل فكان وجوده كراواي أمرا منطقيا، وفي فيلم الكنز نجد ” بشر” يقدم دور القاص والحكيم من خلال فيديوهات مسجلة يطلع عليها الابن بعد وفاة والده، فكان الراوي جزءا من الصراع الدرامي.
الرمزية ودلالة الأسماء:
لماذا سمى “كمال” اسمه باسم شخصية القاص في “الخواجه عبدالقادر” وهل معنى الاسم له دلالة على الشخصية، و”كامل” في ” الرحايا “للابن المتصوف فهل يقصد بذلك أن الكمال في اتباع هذا النهج، و”فرحة” التي يتزوجها محمد أبو دياب بعد حزنه على ابنه وينجب منها ابن يسميه بنفس اسم الابن المتوفي وكأنها التي جلبت له فرحة بعد حزن، و”نادرة” البطلة في “أهو دا اللي صار” و”بحر” الذي يسكن بجوار شاطئ البحر المتوسط، وفي “ونوس” “نبيل” لشخصية المسالم الحساس و”دنيا” التي تستدرجه نحوها ويميل نحوها الأخ “عزيز” كأنها الدنيا التي تتزين للبشر، و”نجيب زاهي زركش” الذي يرمز إلى السعادة والبهجة كما جاء في الشخصية، و “طريف” الخادم المسلي المطيع، و”الباسل حمد الباشا” في “دهشة” و”سكن” و”أبو ضيف” و” نعمة” كلها أسماء دلت على صفات في شخصياتها لم تكن هذه الدلالات بمحض الصدفة فالأسماء عند عبدالرحيم كمال تعبر عن شخصياتها، حتى الأماكن والأشياء لها رمزيتها فدهشة تعبر عن دهشة العقول من طمع النفوس، والرحايا التي تعصر الغلة حتى يخرج دقيقا دلالة على معصرة الحياة وما تجنيه في البشر دون أن تقف في دورانها لأحد، والمحجر الذي يمتلكه محمد أبو دياب يرمز إلى صلابته وقسوته على أبنائه، و”جناين زينب” في “الخواجه عبدالقادر” التي تمتلكها هل يدل على أن زينب إحدى حوريات الجنة، والشيطان في “ونوس” الذي يظهر على شكل بني آدم هل لأن بعض البشر يحملون صفات الشياطين الحقيقة من الإغواء والضلال، الجواب عند “كمال ” فالمعنى في بطن الكاتب.
ثلاث سيدات يلبسن الأسود يظهرن في خلفية الكادر في” دهشة” في نهاية أكثر من مشهد، فما رمزية هؤلاء النسوة هل يرمزن لبنات الباسل “البطل” أم يرمزن لعالم الجن، أم لنساء آخريات، الملاهي التي يظهر بها ونوس ترمز للهو والعبث الذي يحيد الإنسان عن الطريق القويم، لماذا ظهر الشيطان على هيئة صديق “ياقوت” وهو شخص ميت كما جاء في الأحداث هل يظهرون عادة كهذا؟ هل هناك رمزية في ذلك.
هذه من أبرز معالم قصص عبدالرحيم كمال ولا عيب أن يكون للكاتب سمات وعناوين تدل عليه، فهو ابن بيئته ومعرفا لها.